تابعنا
جاءت فكرة الزراعة المنزلية في الواحات الخضراء ضمن مبادرة أسَّسها المهندس الزراعي يوسف أبو ربيع بجهود فردية، تشجِّع الغزيين على إنتاج غذائهم بأنفسهم لتحقيق اكتفاء ذاتي مصدره منتجات غزة الزراعية، في وقت يمارس فيه الاحتلال الإسرائيلي سياسة التجويع.

غلب على المُزارع يوسف شعور التحدي والإصرار بعد حصاد أولى ثمار جهوده في زراعة نبتة الملوخية الخضراء التي بدأت سيقانها تعلو وأوراقها تتمدد، استعداداً لقطفها علَّها تسدّ جوع عائلته في ظل الحرب المستمرة على قطاع غزة.

لم تنمُ جذور النبتة الخضراء المشهورة في الأراضي الفلسطينية هذا الموسم الزراعي ضمن مساحة الأراضي الخصبة الممتدة على طول الحدود الشرقية لمدينة بيت لاهيا شمال القطاع، بل ترعرعت في أحواض بلاستيكية منزلية صغيرة بحديقة منزله، استخدمها للزراعة بعد إعادة تدويرها.

واحات منزلية خضراء لتحدي الجوع

جاءت فكرة الزراعة المنزلية في الواحات الخضراء ضمن مبادرة أسَّسها المهندس الزراعي يوسف أبو ربيع (24 عاماً) بجهود فردية، تشجِّع الغزيين على إنتاج غذائهم بأنفسهم لتحقيق اكتفاء ذاتي مصدره منتجات غزة الزراعية، في وقت يمارس فيه الاحتلال الإسرائيلي سياسة التجويع، ضارباً كل الأحكام والقوانين الدولية التي تجرم ذلك عرض الحائط.

ويزداد خطر تنامي المجاعة في قطاع غزة نتيجة حصار الاحتلال الإسرائيلي، وقالت منظمات حقوقية إنّ إسرائيل تستخدم التجويع "سلاح حرب"، إذ أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش أن الاحتلال يمنع إيصال المياه والغذاء والوقود، فيما يعرقل وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وفي الوقت ذاته يجرف الأراضي الزراعية ليحرم السكان من غذائهم الذي يبقيهم على قيد الحياة.

وربما هذا ما دفع الغزيين، من بينهم يوسف أبو ربيع، إلى التصدي للسياسة الإسرائيلية. ويقول يوسف عن بداية فكرته: "بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من أراضينا الزراعية بالشمال عدنا إليها بعد 4 أشهر فوجدناها مدمرة تماماً، لا آثار للمحاصيل الزراعية التي كنا قد زرعناها قبل الحرب ومن المفترض جني محاصيلها، ومنذ تلك اللحظة قررت إعادة إحيائها من جديد".

تقوم فكرة المبادرة، وفق ما ذكره المهندس الزراعي الذي ورث المهنة عن آبائه وأجداده، على زراعة المساحات الفارغة والواسعة في المنازل ومدارس الإيواء ومخيمات النازحين بمحاصيل زراعية تتيح للسكان الاعتماد على أنفسهم في إنتاج غذائهم لسدّ جوعهم، تحديداً بعد أن بدأت تختفي نبتة الخبيزة الشتوية من الأسواق والأراضي الشمالية.

المهندس يوسف يزرع بذوراً زراعية أمام بيته الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي (TRT Arabi)

ويوضح يوسف في حديثه مع TRT عربي أن "المبادرة تسعى للنهوض بالمنتج الزراعي الفلسطيني على أيدي شبابه الغزيين، لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي في شمال القطاع وجنوبه والاستغناء عن المساعدات الإغاثية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، كذلك الابتعاد عن احتكار التجار بعض الأصناف الغذائية، أهمها نبتة الملوخية، التي تعتبر موسماً زراعياً صيفياً بامتياز".

في الوقت ذاته عبّر عن أسفه نتيجة ارتفاع ثمن كيلو الملوخية الواحد في الأسواق إلى 30 دولاراً، وكانت قبل الحرب ما بين 2 إلى 3 دولارات، مشيراً إلى التجهيز لزراعة محاصيل صيفية متنوعة من الملوخية، والكوسا، والباذنجان.

شتلة ملوخية تنمو في حديقة منزلية ينتظر غزيون قطفها لسد جوعهم (TRT Arabi)
واحات زراعية خضراء مزروعة في فناء أحد المنازل شمال قطاع غزة (TRT Arabi)

الشمال.. مساحات زراعية مدمرة

تعكس روح مبادرة "ننتج غذاءنا بأيدينا" تحدي سكان غزة للاحتلال الإسرائيلي والإصرار على البقاء، في وقت أبادت فيه آلياته العسكرية أراضي القطاع الزراعية الخضراء وحوّلتها إلى صحراء قاحلة تحمل اللونين الأصفر والرمادي، وهذا بدروه حرم المزارعين الوصول إلى أراضيهم المزروعة قرب السياج الفاصل وجني محاصيلها لبيعها في الأسواق المحلية، التي تشكل أكبر اعتماد للسكان عليها في سلّتهم الغذائية من خضراوات.

ويواجه يوسف تحديات عدّة، أبرزها شح البذور والمواد والأسمدة العضوية، وعدم توافر كميات مياه بشكل دوري، فيما يحاول جاهداً العثور ما تبقى من محاصيل وأسمدة كانت متوافرة لديه قبل الحرب.

ويعمل المهندس الزراعي على توسيع نطاق الاعتماد على المنتج الزراعي بشكل أساسي من خلال بث الروح في الأراضي الميتة التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي في الحرب، وإنتاج غذائهم بأيديهم بمساعدة 50 مزارعاً آخرين ممن ظلوا في الشمال ولم ينزحوا.

وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية التي يمتلكها يوسف وعائلته شمال غزة قرابة 40 دونماً، تتنوع ما بين ثمار الفراولة والبطاطس والفلفل الأخضر الحار والطماطم، إضافة إلى الدفيئات الزراعية، جزء من تلك الدونمات جرفته آليات الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب، وجزء آخر من المحاصيل مات بفعل تلوث التربة بالبارود ورذاذ الصواريخ.

وكشفت صور عالية الدقة التُقطت بواسطة الأقمار الصناعية عن تدمير الاحتلال لما يقارب ثلث المساحات المزروعة في شمال القطاع، وأظهرت استخدامه الجرافات في تدمير الحقول والبساتين، وبينت آثار سير الجرافات بالإضافة إلى أكوام من التراب التي يمكن رؤيتها على أطراف الأراضي الزراعية السابقة، مما أدى إلى تقليص مساحتها بشكل كبير منذ بداية أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

تجريف الاحتلال الإسرائيلي دونمات زراعية شمال غزة (TRT Arabi)

زراعة في خيمة النزوح

على غرار مبادرة مدينة بيت لاهيا، تنتظر المزارعة النازحة إلى مخيمات مواصي خان يونس جنوب القطاع تغريد أبو جامع (55 عاماً) بفارغ صبرها جني محاصيل نبتة الثومة التي زرعتها في فناء خيمتها.

لا تُعَدّ مهنة الزراعة بالنسبة إلى تغريد هواية، بل حب وانتماء يسري في عروقها، فمنذ نزوحها من منزلها الذي كانت تحيطه بساتين الورود والنخيل والزيتون ومحاصيل الخضراوات وهي تفكر بإنتاج محاصيل زراعية بديلة، تعتمد فيها على الاكتفاء الذاتي لسدّ جوع أسرتها، فوجدت أن التربة في محيط خيمتها تصلح لزراعة بذور الثوم.

وتقول تغريد لـTRT عربي: "قبل الحرب كانت تعتمد سلّتنا الغذائية في المنزل على الخضراوات المزروعة بحديقة منزلي، معتمدة فيها على غذائنا، تغنينا عن شراء كثير من أصناف الخضراوات من الأسواق".

وتضيف أن الاحتلال الإسرائيلي اقتحم مدينة خان يونس خلال الحرب وهدم منزلهم وجرف قرابة 6 دونمات من الأراضي الزراعية التي يمتلكونها كانت مزروعة بمحاصيل الخضراوات والحمضيات، مما أحدث فجوة كبيرة لهم، تحديداً في ظل شح الخضراوات والمواد الغذائية في الأسواق واحتكارها من قبل التجار.

وتوضح تغريد أن البصل انقطع لفترة طويلة ووصل ثمن الكيلو إلى 25 دولاراً أمريكياً، وهذا مبلغ خيالي، فقرّرت الاستعاضة عنه بالثوم، اشترت كيلوغراماً منه، وبعد الانتهاء منه احتفظت بجذوره وقررت زراعتها بجانب الخيمة، مستعينة بخبرتها الزراعية، ونجحت التجربة رغم التحديات.

وتشير المزارعة النازحة إلى بعض التحديات التي واجهتها، على رأسها أزمة شح المياه، لكنها حاولت توفيرها قدر المستطاع، وتعتمد في ريها على المياه المتبقية من بعد تنظيف الأواني المنزلية، والاستحمام والوضوء.

وتسعى إلى زراعة مزيد من بذور الخضراوات المناسبة لتربة منطقة المواصي النازحة إليها، إذ تفكر في زراعة أوراق النعناع الخضراء الصيفية والفجل والطماطم، علَّها تستعيض بها نتيجة شح توافرها في الأسواق.

وتؤكد تغريد أن الزراعة المنزلية باتت محط اهتمام عديد من النازحين الذين تركوا أراضيهم فأخذوا من تربة مخيمات النزوح فرصة خصبة لزراعة أشتال زراعية تكفي لسلّتهم الغذائية عوضاً عن تناول المعلبات والبقوليات التي تأتي في المساعدات الغذائية، والتي سببت لكثيرين سوء تغذية.

واقع القطاع الزراعي في الحرب

وتشير بيانات صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء إلى تعرُّض القطاع الزراعي لانتهاكات متنوعة ما بين تجريف وتدمير للأراضي الزراعية وإتلاف آلاف الأشجار، مما تسبب بخسائر فادحة قد تتعدى 180 مليون دولار.

وتشكل المساحات المزروعة بالخضراوات 53% من إجمالي المساحات الزراعية في قطاع غزة، وتتركز 34% منها في محافظة شمال قطاع غزة، إضافة إلى 30% في محافظة خان يونس، ما يعني تضرراً مباشراً في المصدر الرئيسي لإنتاج الخضراوات.

كما تسببت الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من 6 أشهر في التعطل المباشر في إمدادات المياه والكهرباء التي تشكل ما نسبته 27% من إجمالي مستلزمات الإنتاج النباتي.

TRT عربي