تابعنا
اليوم وبعد مرور أكثر من 5 أشهُر على الحرب يعيش الأطفال في معاناة نفسية لا تنتهي، من الحرب وتبعاتها، بعد أن فقدوا حياتهم ومنازلهم وطفولتهم، ليعيشوا نازحين ومشردين وسط أصوات الرصاص والقصف والجثث، حزانى وجائعين ومبتوري الأطراف.

وقالت اليونيسف في تقرير لها إن "الأطفال في جميع الحروب هم أول وأكثر من يعاني"، إذ استُشهد نحو 32 ألف فلسطيني على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية الحرب، 72% منهم من النساء والأطفال (أكثر من 13.600 طفل)، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية.

ومَن نجا مِن استهداف الاحتلال عانى من تكرار التهجير القسري بحثاً عن رقعة آمنة، إذ تشير التقديرات إلى أن 85% من سكان غزة، أي نحو 1.93 مليون مدني اضطروا إلى النزوح، عائلات وأطفال، خصوصاً بعد خروج المستشفيات عن العمل.

ولم تقتصر الظروف القاسية التي يعاني منها أطفال غزة على فقدان ذويهم أو التهجير فقط، فشبح الموت جوعاً ما زال يطاردهم، إذ تمنع قوات الاحتلال الإسرائيلي وصول المساعدات والمواد الأساسية إلى قطاع غزة.

وبدلاً من طفولة سعيدة تملؤها حلويات شهية، تزاحم الأطفال على خطف الفتات لسد جوع بطونهم، أو البحث عن الطعام في القمامة، أو تناول الأطفال الليمون والملح، لعدم توافر الخبز والطحين.

ولجأت أم فلسطينية في أحد المشاهد القاسية إلى إطعام رضيعها تمراً لعدم قدرتها على توفير احتياجاته وهو يصرخ ويتضور جوعاً.

ليس الطعام فقط، بل ندر الحصول على مياه صالحة للشرب أيضاً، إذ يتزاحم العشرات للحصول على رشفة، ووفقاً لتقديرات اليونيسف يحصل الأطفال النازحون مؤخراً في جنوب قطاع غزة على ما بين 1.5 إلى لترين من الماء يومياً، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى (ثلاثة لترات يومياً) الذي يتيح لهم البقاء أحياء.

وقد يضطر البعض لسد عطشه إلى الشرب من مياه الأرض الملوثة، كما شاهدنا طفلاً صغيراً يفعل في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع.

وأثار موت الطفل يزن من ذوي الاحتياجات الخاصة حالة من الغضب، إذ لم يتمكن ذو السنوات العشر من الصمود أمام الجوع وسوء التغذية، وتوفي بعد أن برزت عظام جسده نتيجة التجويع وفرض الحصار الإسرائيلي.

ناجون مبتورون

يتعرض أطفال غزة لنوع آخر من الانتهاكات يلازمهم مدى الحياة، وهو فقدان أحد أطرافهم، وتقول منظمة "أنقذوا الأطفال" الخيرية في بيان لها بتاريخ 7 يناير/كانون الثاني إن أكثر من 10 أطفال في المتوسط يفقدون إحدى ساقيهم أو كلتيهما كل يوم في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وأشارت المنظمة إلى أن عديداً من عمليات البتر تُجرى من دون تخدير، بسبب خروج المستشفيات عن العمل، والنقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية في القطاع.

معاناة طَوال الحياة

وتشير تقديرات اليونيسف اعتباراً من بداية فبراير/شباط إلى وجود 17 ألف طفل غير مصحوبين أو منفصلين عن ذويهم في قطاع غزة، ويمثل هذا الرقم 1% من إجمالي عدد النازحين، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية.

ويقول استشاري الصحة النفسية الدكتور وليد هندي إنّ الطفل الفلسطيني كان يفتقد حقه في التعليم والرعاية الصحية والسلامة النفسية والأمن والترفيه، لكن الآن يفتقد حقه في الحياة.

ويشير هندي في حديثه مع TRT عربي إلى دراسة تحت عنوان "أثر الاعتداءات الإسرائيلية خلال انتفاضة الأقصى في الأطفال الفلسطينيين نفسياً" عام 2008، إذ وجدت الدراسة أن 90% من أطفال فلسطين كانت لهم تجربة في حوادث سببت لهم صدمة في حياتهم، معظمها له علاقة بممارسات الاحتلال الإسرائيلي.

كما أن 84.9% من الفلسطينيين شعروا باضطرابات نفسية في أسرهم نتيجة العنف الإسرائيلي، وظهرت عليهم أعراض اضطرابات عقب الصدمة، خصوصاً نوبات البكاء، والخوف من الوحدة والظلام، والتبول اللاإرادي.

وأشارت الدراسة إلى تأثر النشاط الترفيهي للأطفال خلال انتفاضة الأقصى، إذ أوضحت إحصاءات عام 2006 أن 67% من الأطفال الفلسطينيين فقدروا رغبتهم وقدرتهم على القيام بأي أنشطة ترفيهية تخص الأطفال.

ويوضح استشاري الصحة النفسية أن ما يتعرض له الأطفال في حرب غزة الآن يفوق ما مضى، وسيكون له آثار مدمرة في نفسية الطفل الفلسطيني الذي يعاني من النزوح والعمالة نتيجة الجوع، وسيظهر ذلك في أعراض ممتدة مثل "الشعور بالقهر ورفض فكرة السلام".

ويؤكد الدكتور هندي أن الطفل الذي شاهد أحد ذويه يُقتل سوف تلازمه أعراض القلق المفرط والشعور بالتمرد، وعدم الطاعة، والشك الدائم، بالإضافة إلى تدني مستوى الخوف على عكس اعتقاد قوات الاحتلال، نتيجة تساوي احتمالات الحياة والموت، وذلك ما يميز أطفال فلسطين، إذ تمدهم أزماتهم بالصمود والتحدي والأخذ بالثأر والانتقام والدفاع عن أرضهم في المستقبل.

نقص الدعم النفسي

قبل الحرب كانت منظمة اليونيسف تقدم الدعم إلى نحو 100 ألف طفل فلسطيني، الآن وبعد مرور شهور من الأهوال يحتاج كل طفل في قطاع غزة إلى نوع من الدعم النفسي، وفق المتحدث باسم المنظمة جيمس ألدر.

وقال ألدر إنه مع استمرار العدوان الإسرائيلي على القطاع يحتاج الأطفال في غزة إلى الدعم النفسي، إذ يتفاقم الوضع يوماً بعد يوم.

من جهتها تشير استشارية الطب النفسي الدكتورة وئام وائل إلى أن اضطرابات الكرب الحاد وكرب ما بعد الصدمة، المرتبطين بالحروب، قد تتحول إلى اضطرابات أسوأ إذا لم تُعالَج.

وتوضح الدكتورة وئام لـTRT عربي أن أبحاثاً علمية تشير إلى إمكانية الإصابة باضطرابات ذهانية حادة أو مزمنة بسبب التعرض لضغوط الحروب، حتى من دون استعداد وراثي، إذا لم تُعالج.

وتلفت إلى مشكلات الدعم النفسي للأطفال الفلسطينيين، من توفير الأدوية وصعوبة توافر العلاجات السلوكية والمعرفية أو علاجات الصدمات التي تحتاج إلى وقت طويل، غير أنها تحتاج إلى فِرَق طبية مدربة تدريبات خاصة.

وتؤكد الدكتورة وئام أن نقص الإمكانيات البشرية والمادية، نتيجة ظروف الحرب في غزة، يعتبر العائق الرئيسي لمساعدة الأطفال نفسياً من آثار الحرب.

حلول بديلة

ويوضح الدكتور وليد هندي أن عدم علاج آثار الحرب قد يترك آثاراً نفسية تمتد طَوال الحياة، مثل العجز والشعور بالذنب والغضب وفوبيا ومخاوف مَرضية من جميع مظاهر الحرب، مثل صوت الإنذارات والصفارات والقصف والجنود.

ويضيف استشاري الصحة النفسية أنه من الممكن أن تتحول هذه المخاوف المرضية إلى اضطرابات أكثر صعوبة، مثل اكتئاب شديد وقلق الموت وفصام وتوتر دائم على المدى البعيد، قد يدفعهم إلى الإدمان ويصابون بأمراض عقلية نتيجة المشاهد العنيفة وقلة التغذية والظروف القاسية.

وينصح الدكتور هندي أولياء الأمور بتقديم أبسط أشكال الدعم إلى أطفالهم عن طريق احتضانهم باستمرار، والحديث الإيجابي معهم عن ثقافة التنمية باعتبارها جزءاً من التعمير ومقاومة الاحتلال.

ومن المهم -كما يوضح هندي- عرض نماذج إيجابية للتغيير والمساعدة، مثل جهود الدول المساندة، والنماذج التاريخية الناجحة "التي شقت طريقها بصعوبة لكن تكللت بنجاح مثل غاندي".

بدورها تقترح الدكتورة إيناس علي، استشاري الصحة النفسية وتعديل السلوك، حلولاً بديلة لبرامج وجلسات علاج الدعم النفسي غير المتوفرة في غزة حالياً، لتخفيف حدة القلق والاكتئاب والخوف مما يتعرضون له.

وتقول الدكتورة إيناس لـTRT عربي إن فكرة مسرح العرائس بأبسط الإمكانيات قد تساعد الأطفال عن طريق شرح مبسط للظروف وطرق التأقلم والتعايش بعرض مسرحي بسيط.

وتضيف أن الرسم والتلوين مهمّان أيضاً لتعبير الطفل عن نفسه، ويمكن أيضاً إقامة حفلات ترفيهية أو ابتكار ألعاب داخل المخيمات أو المدارس التي يلجؤون لها.

وتشير استشاري الصحة النفسية وتعديل السلوك إلى أهمية اللعب مع رفاقه، وتكوين صداقات جديدة مع الأطفال حوله، ممن جمعتهم الظروف معاً، في محاولة لتخفيف الظروف الراهنة، فضلاً عن ممارسة بعض الرياضة البسيطة.

ويتميز الطفل الفلسطيني كما توضح الدكتورة إيناس بالمرونة النفسية، وهي القدرة على التكيف والتعايش مهما كانت الضغوط والظروف الصعبة، نظراً إلى تعايشه مع أوضاع صعبة طوال حياته في ظل الاحتلال.

TRT عربي