تابعنا
يعيش الفلسطينيون بين ثنائية السجن الأصغر والأكبر، إذ يخرجون من السجن الصغير المتمثل بالشكل التقليدي للسجن في السياق الاستعماري، الجدران الإسمنتية العالية والأبراج الأمنية والمراقبة، ليواجهوا السجن الأكبر المتمثل في أراضي فلسطين المحتلة.

شهدت قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال العام الماضي تحولات كبيرة لم تحدث منذ سنوات الانتفاضات والهبّات الشعبيّة التي عاشها الفلسطينيون، وارتبط هذا التحوّل مع مطلع العام باعتلاء الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الاحتلال الإسرائيليّ سدة الحكم.

كان تاريخ ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول التّحول الأهم والأكبر على صعيد قضية الأسرى، وما تلاه من عدوان شامل ومتواصل على أبناء الشعب الفلسطيني، وإبادة جماعية يواصل الاحتلال الإسرائيليّ تنفيذها بحقّ سكان قطاع غزة.

الحرب على السجون

في 1 ديسمبر/كانون الأول 2023، انتهت هدنة إنسانية بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، أُنجزت بوساطة قطرية-مصرية-أمريكية، وجرى خلالها تبادل أسرى وإدخال مساعدات إنسانية محدودة إلى القطاع الذي يقطنه نحو 2.3 مليون فلسطيني.

وأطلقت إسرائيل بموجب الهدنة المؤقتة سراح 240 أسيراً فلسطينياً من سجونها، بينهم 71 أسيرة منهن 24 من القدس المحتلة والبقية من الضفة الغربية والداخل المحتل، و169 طفلاً، وفق مؤسسات الأسرى الفلسطينيين.

وشملت الصفقة مقدسيات من ذوات الأحكام العالية، وأمهات وجريحات، مثل إسراء جعابيص، ومرح بكير، وشروق دويات، وفدوى حمادة، وأماني حشيم، ونورهان عواد، ونفوذ حماد التي حُكم عليها قبل أسابيع من الإفراج عنها بالسجن 12 عاماً.

هؤلاء الأسيرات كُنّ قد مررن بتحديات جسيمة خلال سنوات اعتقالهن في سجن الدامون الذي أُقيم في عهد الانتداب البريطاني كمستودع للدخان، إذ جرى عند تشييده مراعاة توفير الرطوبة لحفظ أوراق الدخان؛ فبعد عام 1948 وضعت إسرائيل يدها عليه وحوّلته إلى سجن، وأُغلق هذا السجن لفترة زمنية قصيرة؛ ثم أُعيد افتتاحه عام 2001 ليصبح اليوم السجن الوحيد المُخصص للأسيرات الفلسطينيات.

ويفتقر سجن الدامون إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية؛ فغالبية الغرف فيه سيئة التهوية وينتشر فيه الكثير منها الحشرات والرطوبة بسبب قِدم البناء؛ كما أن أرضيته من الباطون (الخرسانة)؛ ما يجعلها باردة جداً في أيام الشتاء وحارة جداً في أيام الصيف.

ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول تعرضت الأسيرات الفلسطينيات الموجودات في سجن الدامون لعمليات تعذيب وتنكيل وضرب مبرح، وتهديدات وصلت إلى حدّ التهديد بالاغتصاب، واستخدامهن رهائن للضغط على أحد أفراد العائلة لتسليم نفسه، إلى جانب تعرضهن للتفتيش العاري والمذلّ، إضافة إلى الإساءة إليهن لفظياً وشتمهن بألفاظ نابية وبذيئة.

وهذا ما عكسته غالبية الشهادات التي تابعتها المؤسسات، وقد تصاعدت الجرائم والانتهاكات بحقّ النساء بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول مع تصاعد حالات الاعتقال بين صفوفهنّ، إذ بلغ عدد حالات الاعتقال للنساء بعد هذا التاريخ 184 فلسطينية، حسب مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.

وفي ضوء المعطيات الخطيرة التي ارتبطت بواقع سياسة اعتقال النساء، فقد عكست هذه المعطيات تعمُّد الاحتلال استهداف أجساد النساء، من خلال التعذيب والتنكيل، والتفتيش العاري، وإجبارهن على خلع الحجاب، وحرمانهنّ من احتياجاتهن الأساسية، واحتجازهن في ظروف قاسية ومأساوية في السجون والمعسكرات، كما أن العشرات من نساء غزة اعتُقلن خلال الاجتياح البري للقطاع، ويفرض الاحتلال عليهن جريمة "الإخفاء القسري".

هواجس تُلاحق الأسيرات

تُشكّل اليوم كثافة الجرائم الحاصلة بحقّ النساء أبرز وقائع هذه المرحلة وأشدّها خطورة، وهي امتداد لتاريخ طويل من استهداف الاحتلال للنساء، ولكنّ هذه التحديات لا تنتهي بمجرد خروج الأسيرة من بوابة السجن؛ بل تستمر لتأخذ أشكالاً أُخرى تنعكس على حياة الأسيرات الاجتماعية والنفسية وتؤثر بشكل مفصلي في خياراتهن وفرصهن، البعض يمتلك القدرة على تجاوزها؛ والبعض الآخر يبقى عالقاً فيها إلى الأبد.

ومن أبرز التحديات التي تواجهها جميع الأسيرات الأمنيّات بعد الحريّة، المخاوف والهواجس التي تبرز على شكل تساؤلات، ومن أهمها: هل هي قادرة على تجاوز هذه المرحلة بكل ما فيها من خوف وأمان مؤقت؟ هل ستعود إلى السجن مرة أخرى؟ هل ستحصل على الأوراق الثبوتية (الهوية وورقة الإفراج)؟ هل ستتخلص من كوابيس السجن وذكريات العدد والتفتيش؟ هل ستستطيع الاندماج مع المجتمع الخارجي أم ستبقى أسيرةً لحزنها وخوفها؟ ما حدود الحريّة التي تمتلكها الأسيرة المحرَّرة؟

وترى الأسيرة المحرَّرة إسراء جعابيص، التي أُفرج عنها بعد قضائها ثماني سنوات في سجون الاحتلال، أن مواجهة المجتمع بشكلها الحالي جراء الحروق التي أصابت 70% من جسدها، أحد أهم التحديات التي تواجهها بشجاعة.

وتضيف إسراء لـTRT عربي أنه منذ اللحظة الأولى لتحررها، قررت الانخراط والتفاعل مع المحيط، ولم تذهب إلى خيار الانعزال والتقوقع حول الذات، وقد قابلها المجتمع بالدعم والحب والاحتواء حين تجولت في أحياء مدينة القدس وزارت المسجد الأقصى، كما أنها خلقت مساحة تفاعلية مع الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال إنشاء حسابات خاصة فيها ونشر فيديوهات ذات طابع تحفيزي وتوعوي.

إلا أن جميع ما ذُكر لم يحرر إسراء من وجعها الجسدي والنفسي؛ فهي لا تزال تنتظر البدء برحلة علاجها، لكنها لم تحصل على ورقة الإفراج الخاصة بها بعد، ما يمنعها من القدرة على التحرك والسفر، ويأتي ذلك ضمن سياسات المماطلة التي يعتمدها الاحتلال تجاه جميع الأسرى والأسيرات الذين تحرروا في صفقة التبادل الأخيرة في 2023.

وتقول الأسيرة المحرَّرة: "أنا تحررت من السجن مكاناً، لكنني لم أتحرر من وجعي الداخلي المربوط بشكلي الحالي، حريتي مجزوءة وغير مكتملة، وأخاف من إعادة اعتقالي، فقد مكثت في السجن 8 سنوات ولم أتلقَّ العلاج".

وبالحديث عن الحرية المجتزأة؛ حذرت إسرائيل الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم في بيان صادر عن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، من الاحتفال بالإفراج عنهم وإلا فسيعيد الاحتلال زجهم بالسجن، كما مُنع عنهم ممارسة النشاط السياسي أو نشر محتوى سياسي على وسائل التواصل الاجتماعي أو الذهاب إلى أي احتجاجات، إذ يكمم الاحتلال أفواه الأسيرات المحررات، فارضاً عليهن سجناً من نوع آخر.

وفي هذا السياق؛ تشير إسراء إلى أن "هناك كثيراً من الأمور التي تريد قولها حول ما يحصل في قطاع غزة، ولكنها لا تستطيع؛ لأنه سيعاد اعتقالها بحجة دعم الإرهاب"، مضيفة: "وبالتالي كيف سأعيش الحياة بحريّة؟، فمنعنا من التعبير ومحاولات تسكيتنا تهدف إلى تفريغنا من محتوانا الديني والثقافي والثوري والنضالي".

وعلى صعيد آخر، تواجه إسراء الأم تحديات خاصّة بشكل أمومتها مع ابنها الوحيد "معتصم" ، فبعد غياب قسريٍّ عنه لمدة ثماني سنوات، تحوّل فيها من طفلٍ صغير إلى فتى يحاول إثبات نفسه باحثاً عن أجوبته.

وفي هذا الصدد تشير إسراء إلى وجود تحديات دائمة تفرضها عليها الأمومة، وأنها وابنها يتعرفان على بعض من جديد ليجدا طريقاً للحوار والتواصل المستمر بينهما رغم الصعوبات.

شبح إعادة الاعتقال

لا يزال الاحتلال يُحرّك دعاوى قضائية قديمة ضد الأسيرة المحرَّرة الطفلة نفوذ حماد (17) عاماً، وهي من سكنة حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، التي أُطلق سراحها أيضاً في صفقة تبادل للأسرى، ما يعني ضمنيّاً سقوط التهم المنسوبة إليها.

وكانت حماد تقضي حكماً بالسجن 12 عاماً مع تعويض بقيمة 50 ألف شيكل (نحو 13 ألف دولار)، وبالسجن لثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، بتهمة "محاولة قتل مستوطنة والتسبب في إصابتها بصورة طفيفة" جراء عملية طعن.

تواجه الطفلة نفوذ تخوفاً دائماً من إعادة اعتقالها، فشبح الاعتقال الأول لا يزال يُلاحقها وهي طالبة ترتدي الزي المدرسي وتجلس على مقاعد الدراسة بعد انقطاع عامين، ومن المقرر أن تحضر محكمة في 25 مارس/آذار الجاري، للبت في القضية التي وُجهت إليها بعد رفع إحدى السّجانات في سجن هشارون شكوى ضدها بتهمة الاعتداء والتهجم عليها.

كما أن الطفلة تواجه خطراً بإمكانية الإبعاد من حي الشيخ جراح بعد قضايا وشكاوى عدة رفعتها ضدّها المُستوطِنة التي تسكن إلى جانبها في الحي نفسه، والتي اتهمها الاحتلال بمحاولة طعنها سابقاً.

وعن مخاوفها تقول نفوذ لـTRT عربي: "وأنا أجلس على المقعد في الصف الآن، أتذكر اللحظات الأولى لاقتحام جيش الاحتلال للصف عام 2021 واعتقالي أمام جميع طالبات المدرسة في مدرستي القديمة".

وتتابع: اليوم بأي لحظة يمكن أن يوقفني جندي في أثناء توجهي إلى المدرسة وتلفيق أي تهمة بحقي لإعادة اعتقالي، "تحديداً إن الوضع في القدس متوتر جداً بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ولا يمكننا المشي في الشوارع أو الجلوس بباب العامود أو حتى زيارة الأقصى".

وحول التحديات التي لها علاقة بالتعليم، تؤكد نفوذ أن "الاحتلال فرض عليها قراراً بالمنع من السفر لمدة 12 سنة، وبالتالي لا توجد لديها أي فرصة للتعلم في الخارج، ولا يوجد خيارات للتعليم هنا، فالجامعات الإسرائيلية لا تسمح بانضمامها بصفتها ضمن الأسيرات المحررات، أما التعليم في الجامعات الفلسطينية الموجودة في الضفة الغربية، فهو يحمل مخاطرة كبيرة، إذ إن هناك دائماً حملات اعتقال ضد الطلبة، ومعظمهم يُحوّل للاعتقال الإداري".

سؤال الحريّة ما بعد الحريّة

يعيش الفلسطينيون بين ثنائية السجن الأصغر والأكبر، إذ يخرجون من السجن الصغير المتمثل بالشكل التقليدي للسجن في السياق الاستعماري، الجدران الإسمنتية العالية والأبراج الأمنية والمراقبة، ليواجهوا السجن الأكبر المتمثل في أراضي فلسطين المحتلة؛ التي حوّلها الاحتلال إلى مناطق محاصرة ومراقبة، وبالتالي يبرز سؤال المعنى الحقيقي للحريّة بين هذين السجنَين ليصبح سؤالاً وجوديّاً يُلاحق كل الفلسطينيين.

فيروز سلامة، أسيرة محرَّرة وطالبة دراسات عليا في جامعة بيرزيت، اعتقلها الاحتلال من بيتها في بلدة بيرزيت في رام الله بتاريخ 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ليُفرج عنها في صفقة التبادل بعد 13 يوماً، وقد مكثت طوال هذه المدة في غرف التحقيق والزنازين الخاصة بسجن عوفر.

وفي حديثها مع TRT عربي تتساءل فيروز عن مفهومها للحريّة والتحديات التي تفرضها ظروف الواقع وتركيباته، وتقول: "سؤال الحرية ما بعد الحرية يواجهني دائماً، فأنا محبوسة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وليس من تاريخ 16 (نوفمبر/تشرين الثاني)، ففي اللحظة التي قُيّدت فيها قدرتي على الحركة داخل المدن والمحافظات في بلدي اعتبرت نفسي محبوسة، فالحرية هي القدرة الحرة على الحركة والكلام، ما أعيشه اليوم هو حريّة مجزوءة وليست كاملة".

وحول التحدي الحقيقي الذي تعيشه فيروز وغيرها من الشابات والشباب في فلسطين المحتلة، تلفت إلى أن "هذه الحرب هي من أصعب الحروب التي عاشوها، وقد نتج عنها سؤال حقيقي عن فلسطينيتهم ومعانيها وما نوع الوطن الذي يريدونه؟ وما الدور الخاص بكل شخص فيهم في سبيل تحقيق هذا الهدف؟".

وكغيرها من الأسيرات المحررات تعيش فيروز الخوف من إمكانية إعادة الاعتقال، لكنها تتعامل مع خوفها من منطلق التحدي والمواجهة، وحول ذلك تضيف: "الحياة لا تعطينا رفاهية الخوف دائماً، يجب أن تواجه الخوف حتى لا يتملكك ويجعل منك عبداً، فأنت أمام خيارين: إما أن تعيش بقلق وانهيار نفسي وانعدام للجدوى، وإما أن تتمسك وتستمر وذلك من أجل الذين ضحوا بأجسادهم ودمائهم".

TRT عربي