تابعنا
جاء عيد الأم هذا العام الذي يصادف 21 من مارس/آذار، على الأمهات الغزيات من دون أبنائهن، والأبناء بلا أمهاتهم لينكأ جراحهم مغيّباً أصواتهن عن فلذات أكبادهن، تاركاً حسرة كبيرة في قلوبهم.

"أحلى أم بالدنيا أمي، الورد لو خلص عطره منها يأخذ عطره، والله تستاهل الجنة"، اختار الشاب أحمد البطة (25 عاماً) إهداء هذه الكلمات لروح والدته التي لم تفارقه قط، تخليداً لذكرى غيابها الأول عن عيد الأم، فهديته هذا العام مختلفة عما سبق من أعوام.

فقد أحمد البطة الذي يعمل مراسلاً صحافياً والدته وشقيقته الكبرى رنا وأسرتها إثر استهداف الاحتلال المنزل الذي كانوا نازحين فيه بمدينة خان يونس جنوبي القطاع، بأربع قذائف، وظلت غصّة غيابهم ترافقه في كل مناسبة تمر عليه.

"لا عيد من دون أمي"

جاء عيد الأم هذا العام الذي يصادف 21 من مارس/آذار، على الأمهات الغزيات من دون أبنائهن، والأبناء بلا أمهاتهم لينكأ جراحهم مغيّباً أصواتهن عن فلذات أكبادهن، تاركاً حسرة كبيرة في قلوبهم.

وبدل أن تحاصر آلاف الأمهات قبلات وابتسامات أبنائهن بالورود، حاصرتهن جثثهم ودماؤهم، الذين أبادتهم صواريخ طائرات الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ ستة شهور.

ووفق تقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة، فإن 70% ممن استشهدوا في قطاع غزة جراء الغارات الإسرائيلية هم من الأطفال والنساء، فيما أشار التقرير ذاته إلى أن امرأتين تُقتلان كل ساعة في غزة في منذ بداية الحرب.

ويقول أحمد لـTRT عربي: "لا عيد من دون أمي، أشعر بحسرة كبيرة عندما أسمع أصدقائي يهاتفون أمهاتهم، كما أشعر باستياء عند سماعي أحدهم يعامل والدته بشكل غير لائق، بالوقت ذاته أشتاق لسماع صوتها ولا أجده، أرى وجهها في كل الوجوه، وأسمع صوتها في جميع الأصوات".

ويضيف: "آخر مرة شاهدت أمي كانت قبل استشهادها بأسبوع، وليلة عيد ميلادي هاتفتني لتعايدني وتطمئنّ عليّ، بينما كنت على رأس عملي الصحافي، وفي اليوم التالي جاءني خبر استشهادها، فحوّل الاحتلال الإسرائيلي يوم ميلادي لذكرى أليمة سترافقني طوال حياتي".

أحمد البطة مع والدته التي فقدها إثر استهداف الاحتلال المنزل الذي كانوا نازحين فيه بمدينة خان يونس جنوبي القطاع. (TRT Arabi)

تربط أحمد علاقة حب كبيرة بأمه لكونه الشاب المدلل الذي جاءها بعد ست فتيات، فكانت الداعم والمحفز الأول والأخير له، تفتخر به أمام الجميع، لكنها كانت قلقة عليه في الحرب كثيراً بسبب ظروف عمله الصحافي الميداني، ترعبها فكرة فقدان وحيدها، من دون أن تعلم بأنه من سيفقدها.

"أمي كانت مصدر بهجتنا وجمعاتنا مع شقيقاتي بالبيت، والمناسبات الاجتماعية سواء الأعياد أم الأفراح أو الفسح الترفيهية، تستحق أن تكون كل أيام السنة عيد أم لها وليس يوماً واحداً"، حسب تعبير الشاب، مشيراً إلى أنه بانتظار قدوم طفلته الأولى التي طالما انتظرت والدته مشاهدتها كأول حفيدة لها، لذا قرر أن يسمّيها سوسن لتحمل اسم جدتها.

يتيم الأم يقوم بدورها حزيناً

أما الطفل محمد اليازجي (13 عاماً)، كان من المفترض أن يحتفل مع والدته بعيد الأم مقدماً لها هدية رمزية، مدخراً ثمنها من مصروفه الشخصي المدرسي كما اعتاد كل عام، لكنه وجد نفسه يقوم بدورها بعد أن أصبح يتيم الأم.

فقد محمد والدته إثر استهداف طائرات الحرب الإسرائيلية لعائلته في أثناء نزوحهم من شمال غزة إلى مدينة رفح جنوبها، فاستشهدت هي وفقد والده، و قدر له النجاة مع أشقائه الأربعة أصغرهم طفلة رضيعة.

ويروي لـTRT عربي: "أشتاق لوالدتي كثيراً، مجيء عيد الأم فتح جرحي وألمي على فقدانها، أتمنى لو أنها كانت معي نحتفل معاً بيومها، كما يحتفل أطفال آخرون مع أمهاتهم، أبكي على فقدانها، لكن شعوري أنها بالجنة تشاهدني أهتم وأرعى أشقائي من دونها يريحني ويطمئنني".

يوجه محمد رسالة لوالدته الشهيدة بقوله: "في يوم الأم أريد إخبارها بأن تركها لنا وحيدين من دونها يشعرني بقهر كبير، متحملاً مسؤوليات أشقائي كما كانت تفعل، رغم أن الأمر يبدو شاقاً على طفل بعمري".

تخلى محمد عن طفولته وحقه باللعب والمرح واللهو مع أقرانه من أجل والدته الشهيدة، شارحاً طبيعة المهام الموكلة إليه بعدها، بأنه ينظف الخيمة التي ينزح فيها مع أشقائه باستمرار، كما يعتني بهم، وخاصة شقيقته الرضيعة تولين ذات الأشهر الستة.

وعن ذلك يقول: "رعايتها صعبة للغاية، لا تتوقف عن البكاء تريد أمي، ترهقني وتحزنني بالوقت نفسه، وأستيقظ أحياناً منتصف الليل، أبحث عن حطب لإشعال النيران وإعداد الحليب لها، وتغيير 'حفاضتها'، وأربت على كتفها لساعات حتى تذهب إلى النوم بصعوبة".

لاعيد في غزة للأبناء، كما الأمهات المكلومات اللواتي اعتصر الحزن قلوبهن لوعة على فراق فلذات أكبادهن، فعيدهن يأتي إليهن مثقلاً بجراح الحرب وأوزارها، لم يتخيلن يوماً أن يعشن الفقد في أبشع صوره.

عيد أم بلا أبناء

لم يأتِ بشار صباح يوم الأم ليطبع قبلة معايدة على جبين والدته منار القطاع (38 عاماً) كالعادة حاملاً معه بعض الورود، لم تقر عينيها به هذه المرة، فالسماء فازت به، واحتضنته الأرض من دون أن تلقي عليه نظرة وداعها الأخيرة.

استهدف الاحتلال بشار منتصف الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بينما كان ذاهباً لإحضار أغراض لعائلته مع أبناء عمومته، بعد أن أجبرهم جيش الاحتلال ترك منزلهم من منطقة تل الهوى غرباً، والتوجه لمراكز الإيواء التي لا تبعد كثيراً عنهم، ومنع أي أحد التوجه لإنقاذه، فظل ينزف حتى استشهد، وذهب من دون أن تودعه والدته.

كانت تجلس منار القطاع في زاوية غرفة ابنها بشار، الذي كان يبلغ من العمر 17 عاماً عند استشهاده، تشم رائحة ملابسه، تشاهد صوره، تقبلها، فهذه المرة هي من عايدته، إذ جاء عيد الأم لينثر على قلبها ملحاً.

استهدف الاحتلال الإسرائيلي بشار منتصف الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بينما كان ذاهباً لإحضار أغراض لعائلته مع أبناء عمومته. (TRT Arabi)

وتقول منار لـTRT عربي: "بعد بشار أطفأت الحياة أنوارها بوجهي، كان حنوناً جميلاً أنيقاً يهتمّ بنفسه، ودوداً مع من حوله، يمازحني ويتقرب مني، في كل عيد أم يسألني ماذا تحبين أن أهديك؟ فأجيبه أن تتفوق في الثانوية العامة".

"قبل الحرب بشهر بدأ دراسة الثانوية العامة، اتفقت معه على إعداد جدول دراسي له، لكونه من المتفوقين، وعدني أنه سيكرس جهوده بالدراسة للحصول على معدل يفتخر به أمامي، ووعدته بإقامة حفلة كبيرة له بهذه المناسبة، لم أكن أعلم أن الحرب ستحول كل خططنا لكابوس"، تضيف منار بصوت يجهش البكاء.

أما الأم نائلة جبر فتستذكر في يومها صرخات ابنتها حلا، "يا ماما أنقذينا" التي تلاحقها رغم مرور شهر على استشهادها، ابنتها بعمر 16 عاماً، إذ علقت تحت الأنقاض تستنجد بوالدتها لإنقاذها، لكنها عجزت عن ذلك، فحولت الحرب الإسرائيلية أجمل المناسبات لها لذكرى أليمة.

وتقول السيدة نائلة لـTRT عربي: "العام الماضي في مثل هذا اليوم استيقظت على صوت حلا تعايدني، ووضعت بجانب رأسي هديتها لي بمناسبة عيد الأم، أصبحت أكره هذا اليوم بعد غياب ابنتي، يذكرني بغصة وعجز كبير في إنقاذها، فلم يكن باليد حيلة".

استشهدت حلا إثر استهداف الاحتلال منزل جيرانهم، إثر ذلك تعرضت غرفتها للتدمير، وسقط حائط عليها، لم يكن حينها سوى هي وأمها بالمنزل، حاولت والدتها إنقاذها، فلم تستطع حتى فقدت حياتها أمامها، بسبب تأخر وصول الإسعاف إليها أيضاً.

TRT عربي