تابعنا
يسعى الاحتلال إلى خلق وقائع ميدانية جديدة لشكل التعامل مع قطاع غزة، يتيح لهم سهولة أكثر في الحركة والتعامل الأمني في غزة، ويستلزم هذا الأمر بصورة أساسية بناء حقائق ميدانية تمكنه من ذلك.

تزامنت عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مع الوضع الذي كان قائماً في قطاع غزة وضبطت بموجبه قواعد الاشتباك ما بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي الذي شن حرباً مدمرة على القطاع.

يسعى الاحتلال إلى خلق وقائع ميدانية جديدة لشكل التعامل مع قطاع غزة، يتيح لهم سهولة أكثر في الحركة والتعامل الأمني في غزة، ويستلزم هذا الأمر بصورة أساسية بناء حقائق ميدانية تمكنه من ذلك.

وإلى جوار عملية التدمير والتهجير الممنهج التي تتبعها حكومة الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، والتي سوف تترك أثرها في مستقبل القطاع بلا شك، أعاد جيش الاحتلال الإسرائيلي احتلال منطقة نتساريم التي سبق أن أنسحب منها عام 2005، وبدأ بإجراءات بناء منطقة عازلة على طول الحدود مع القطاع، بالإضافة إلى التهديد باجتياح رفح والسيطرة على محور فيلادلفيا.

المنطقة العازلة

منذ بداية عمليات إسرائيل البرية في قطاع غزة في 28 أكتوبر/تشرين الأول توالت التصريحات الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين في جيش الاحتلال والحكومة حول عزم الجيش إقامة منطقة عازلة على امتداد الحدود مع غزة.

ونقلت وكالة رويترز في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي عن مصادر "إقليمية" إبلاغ حكومة الاحتلال الاسرائيلي لعدد من الدول الإقليمية نيتها إقامة منطقة عازلة على الحدود مع غزة.

وأشار أوفير فولك مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي للسياسة الخارجية إلى أن إنشاء المنطقة العازلة قد يكون جزءاً من خطة الاحتلال الإسرائيلي للتعامل مع اليوم التالي للحرب في غزة.

كما نقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن مسؤولين في جيش الاحتلال الإسرائيلي في يناير/كانون الثاني الماضي ضرورة أن تكون المناطق الحدودية خالية من السكان، وذلك للحيلولة "دون تكرار هجمات السابع من أكتوبر التي شنتها حركة حماس". وفي تقرير آخر لذات الصحيفة أشار جندي إسرائيلي إلى "تلقيهم أوامر بتطهير منطقة بعرض كيلومتر واحد على طول الحدود مع غزة".

ليست هذه المرة الأولى التي تطالب فيها إسرائيل بإنشاء منطقة عازلة سواء مع قطاع غزة أو مناطق أخرى، فإسرائيل تعاني من أزمة عمق استراتيجي تدفعها دائماً إلى البحث عن مناطق عازلة عن الكيانات المعادية المحيطة بها، يعزز ذلك طبيعتها العدوانية تجاه البلدان والبيئة المحيطة بها.

وخلال جميع الحروب التي خاضتها إسرائيل مع الدول العربية كانت المناطق العازلة مطلباً إسرائيلياً. جنوباً أصرت إسرائيل في اتفاقية كامب ديفيد على أن تقسيم سيناء إلى ثلاث مناطق (أ، ب، ج) حدد فيها عدد الجنود وشكل عتاد الجيش المصري، وشمالاً احتلت إسرائيل هضبة الجولان مع سوريا، ومع الأردن تصرّ على البقاء في غور الأردن ما بين الضفة الغربية والأردن، فيما بنَت الحزام الآمن مع لبنان عام ١٩٨٥ للحيلولة بينها وبين مقاتلي منظمة التحرير بداية ومقاتلي حزب الله لاحقاً، لكن عوامل عدة أدت إلى فشل المشروع مع انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان عام ٢٠٠٠.

أما في غزة فقد بدأت إسرائيل ببناء السلك الفاصل مبكراً مع تصاعد العمل الفدائي في المدينة خلال الانتفاضة الأولى، وخلال اتفاقية أوسلو جرى الحديث عن منطقة عازلة بعرض 50 متراً داخل حدود القطاع، كما تناول اتفاقية غزة أريحا شكل الترتيبات الأمنية في هذه المنطقة.

ولم تنفذ هذه الترتيبات بشكل جدي إلا مع اندلاع الانتفاضة الثانية واشتداد هجمات المقاومة الفلسطينية، لتنشئ قوات الاحتلال منطقة عازلة بعمق 150 متراً، توسعت لاحقاً إلى 300 متر، وبعد حرب عام 2012 قلص الاحتلال عمق المنطقة العازلة إلى 50 متراً مع استمرار التضييق على شكل الزراعة والنشاط في حدود 300 متر.

60 كيلومتراً و16% من مساحة القطاع

وعلى الرغم من التصريحات الإسرائيلية حول المنطقة العازلة، فإنه لم يصدر حتى هذه اللحظة أي تعليمات أو أوامر واضحة للسكان الفلسطينيين بحدود هذه المنطقة، على خلاف المرات السابقة التي كانت حدود المنطقة العازلة على قطاع غزة واضحة.

هذا الأمر يجعل النظر في المصادر المفتوحة ودراسة السلوك الإسرائيلي على الأرض أمراً مفيداً لتحديد معالم هذه المنطقة من خلال تتبع نمط Pattern وعمليات الهدم والتجريف بالاعتماد على الصور الجوية المتوافرة أو أدوات البحث المفتوحة مثل منصة Google Earth Engine.

صورة جوية لقرية خزاعة الحدودية والتي تعرضت لعملية تدمير واسعة وممنهجة (موقع: sentinel hub)

ويلاحظ من المواد المفتوحة أن عمليات تدمير ممنهج تجري على طول الحدود، تظهر كثافتها في بعض المناطق دون الأخرى، وتحديداً المناطق السكنية، مثل المناطق الشرقية من محافظة خان يونس التي تشهد عمليات تدمير ممنهج للأحياء السكنية.

تتميز هذه المناطق بقربها من الحدود، مثل قرية خزاعة التي تظهر الصور الجوية وخرائط الهدم تعرضها لعمليات تدمير واسعة، وهذا ما أشار إليه ضابط في جيش الاحتلال الإسرائيلي في حديث له مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بأن عمليات الهدم التي تجري في المناطق تهدف إلى إنشاء منطقة عازلة.

الأمر ذاته يلحظ في بلدة بيت حانون شمال شرق قطاع غزة، التي تقع بالقرب من بلدة سديروت الإسرائيلية التي شهدت مواجهات عنيفة خلال هجوم السابع من أكتوبر، كما يتكرر المشهد على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة في محافظة الوسطى وتحديداً في مخيمَي البريج والمغازي حيث شهد مقتل 21 جندياً إسرائيلياً خلال محاولتهم تفجير أحد المباني في إطار جهود بناء المنطقة العازلة.

صورة جوية لبلدة بيت حانون شمال مدينة غزة (موقع: sentinel hub)

وما زالت حدود المنطقة العازلة غير واضحة وتتباين من منطقة إلى أخرى، لكن في حال اقتطع الاحتلال كيلومتراً واحداً من أراضي غزة فهذا يعني ما يقرب من 60 كيلومتراً من مساحة غزة، ما يعادل 16% من مساحة القطاع التي تبلغ 360 كيلومتراً.

هذا ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لمعارضة الخطوة وتأكيدها ضرورة عدم تقليص مساحة قطاع غزة، فيما حذر فولكر تورك مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان من أن بناء المنطقة العازلة وعمليات الهدم الواسعة التي تقوم بها إسرائيل قد تشكل "جريمة حرب".

ولا تقتصر خطورة المنطقة العازلة على تقليص مساحة قطاع غزة، بل تشمل حرمانه من أكثر أنواع التربة خصوبة والمستخدمة في قطاع الزراعة، بالإضافة إلى تهجير جزء كبير من سكان هذه المناطق بعد تدمير مساكنهم وتحويلها إلى منطقة أمنية محظورة.

ممر نتساريم الفاصل.. عودة سياسة الأصابع الخمس

في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ظهرت دبابة إسرائيلية على شارع صلاح الدين، الشارع الرئيسي الواصل ما بين مدينة غزة وشمالها مع مختلف مناطق قطاع غزة، وبعد أيام كانت الدبابات الإسرائيلية تتمركز على شارع الرشيد البحري لتكمل احتلال ما يُعرف بمستوطنة نتساريم التي بناها الاحتلال الإسرائيلي في إطار استراتيجية "الأصابع الخمس"، إذ فصلت التجمعات الاستيطانية الإسرائيلية بين الكتل السكانية الفلسطينية، فمستوطنة نتساريم فصلت بين محافظة شمال غزة وغزة من جانب، ومحافظات الوسطى والجنوب من جانب آخر.

يضطلع الممر بمجموعة من الوظائف، بدءاً من عزل شمال الوادي عن جنوبه ومنع سكان الشمال ومدينة غزة النازحين من العودة إلى الأماكن التي نزحوا منها، كما تحولت هذه المنطقة إلى ممر للمساعدات الإنسانية التي تمر إلى مدينة غزة وشمالها، ما يعني مهمة جديدة لهذه المنطقة لتتحول إلى ممر حيوي لسكان شمال الوادي، خصوصاً بعد أن جرى ربط الممر البحري الذي يجري إنشاؤه في منطقة الشيخ عجلين المتصلة مع ممر نتساريم.

ممر نتساريم، ويظهر فيه الطريق 749 الممتد من كيبوتس بيري حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط (موقع: sentinel hub)

كما يحتل هذا الممر أهمية خاصة في عمليات جيش الاحتلال بعد إعلان المرحلة الثالثة والتي تركزت فيها عمليات الاحتلال على التوغلات المحدودة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منها في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فمن هذا المحور انطلق جيش الاحتلال خلال عملياته في حي الزيتون وتل الهوى ومناطق غرب غزة وأخيراً عملية الشفاء.

وتظهر الصور الجوية والمواد المستقاة من المصادر المفتوحة تعزيز جيش الاحتلال الإسرائيلي وجوده في هذه المنطقة عبر فتح طريق ممتد من الحدود الإسرائيلية مع غزة إلى البحر عرف بطريق 749، كما أنشأت قوات الاحتلال عدداً من المواقع العسكرية بالإضافة إلى الحواجز المخصصة لمرور السكان على شارعَي الرشيد الساحلي وصلاح الدين.

بالإضافة إلى ممر نتساريم، ومع استمرار تهديدات الاحتلال باجتياح رفح، يبرز خطر سيطرة الاحتلال على محور فيلادلفيا ما بين قطاع غزة ومصر، ما يعني إنشاء ممر فاصل آخر ما بين مصر والقطاع، وبرّر قادة الاحتلال الإسرائيلي في أكثر من مناسبة خطوة اجتياح رفح بالسيطرة على الحدود ومنع تهريب الأسلحة إلى غزة، ما يعني إعادة إنتاج المشهد في القطاع إلى ما قبل عام ٢٠٠٥.

ما خطورة وجود الاحتلال في المنطقة العازلة والممر الفاصل؟

تكمن خطوة الترتيبات الميدانية التي تضطلع بها إسرائيل في انعكاسها على مستقبل غزة السياسي والأمني، فبقاء هذه الترتيبات واستمرارها يعنيان أن الحرب سوف تستمر، إذ صرحت المقاومة الفلسطينية في أكثر من مناسبة رفضها الإجراءات الإسرائيلية سواء بناء المنطقة العازلة أو الممر الفاصل.

كما أن بقاء الاحتلال في هذه المناطق يعني أن عملياته سوف تستمر في مناطق القطاع، فممر نتساريم يشكل في جوهره ممراً لوجستياً لتحرك قوات الاحتلال باتجاه مدينة وشمال قطاع غزة.

بالإضافة إلى أن بقاء الممر يعني استمرار أزمة السكان النازحين من شمال غزة في مناطق جنوب ووسط القطاع، فحتى لو توصلت المقاومة إلى صفقة لعودة السكان شمال ومدينة غزة فإن استمرار وجود الاحتلال على هذا المحور سيعطل ويحدّ من العودة الكاملة للسكان.

صورة جوية للمنطقة الشرقية من مدينة غزة وتحديداً شرق حي الشجاعية يظهر فيها حجم الدمار الكبير التي تعرضت له المنطقة (موقع: sentinel hub)

أما المنطقة العازلة فإنشاؤها وبقاء الاحتلال فيها يعنيان أن المناطق الشرقية والشمالية من قطاع غزة ستظل تحت نار نشاط جيش الاحتلال الإسرائيلي سواء عبر التحرك منها أو تحويلها إلى مناطق اشتباك دائمة.

ما زال نجاح هذه الإجراءات والتغييرات التي تدخلها حكومة الاحتلال على جغرافيا قطاع غزة غير حتمي، وعلى رأس العوامل التي قد تفشل هذه الترتيبات أو على الأقل ترفع كلفتها على الاحتلال المقاومة الفلسطينية وتصاعدها.

TRT عربي