تابعنا
حدَّد الجيش الإسرائيلي شارع صلاح الدين، الممتد من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، "ممرّاً آمناً" للنزوح، هذا الممر الذي يصفه الفلسطينيون بأنه "ممر الموت والذل".

على مقربة من مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، كان محمد أبو ناصر يترقب ليلة السابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2023، الأحزمة النارية العنيفة التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على شمال القطاع إيذاناً ببدء العملية البرية الإسرائيلية بعد عشرين يوماً من اندلاع الحرب في السابع من الشهر نفسه.

ويروي أبو ناصر تفاصيل تلك الليلة وما بعدها لـTRT عربي، ويقول: "لم نكن ننام، فقط نأخذ غفوة قصيرة من قوة الأحزمة النارية، كانت أياماً كالكابوس، قُصف المربع السكني الكامل مقابل منزلي، ولحقت به أضرارٌ بسبب قوة الانفجارات، واستُشهد عدد كبير من الناس في الحي حيث أقيم".

مع تكرار الأحزمة النارية، واقتراب الجيش الإسرائيلي بريّاً من مستشفى كمال عدوان، قرر أبو ناصر النزوح جنوب وادي غزة، رفقة زوجته وطفله الرضيع، تزامن مع ذلك النزوح انقطاع الاتصالات والإنترنت عن غزة، بسبب الاستهداف الإسرائيلي للبنية التحتية وخطوط الاتصال، ما أفقده القدرة على ممارسة عمله الصحفي في الشمال.

قبل أن تبدأ إسرائيل عمليتها البرية في غزة، ألقت منشورات تحذيرية على سكان شمال القطاع عبر الطائرات، ونشرت عبر وسائل الإعلام في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أول تحذير منها للفلسطينيين، تطالبهم بالتوجه نحو جنوب وادي غزة، وبعدها استمرت حركة النزوح جنوباً حتى مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023، وبدأ الاحتلال العملية البرية في جنوب وادي غزة.

"ممرات الموت"

حدَّد الجيش الإسرائيلي شارع صلاح الدين، الممتد من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، "ممرّاً آمناً" للنزوح، هذا الممر الذي يصفه الفلسطينيون بأنه "ممر الموت والذل"، وهو ما يوافق على وصفه أبو ناصر، الذي شهد اعتداء جنود الاحتلال وجرائمهم بحق النازحين على هذا الممر.

ويضيف أبو ناصر أن "طريق النزوح كان صعباً للغاية، فدون سيارات اضطروا إلى السير، وحين وصلوا إلى الحاجز الذي وضعه الاحتلال عند النقطة الفاصلة بين شمال وادي غزة وجنوبه، انتظروا ساعاتٍ حتى يسمح لهم الجند بالدخول، وعندما يحين دورك على الحاجز يعرضك الجند للذل والإهانة، ويعتقلون بشكلٍ عشوائي من يريدون".

ويتابع: "طلب جندي من امرأة أمامي أن تترك طفلها الصغير وتتقدم نحوه، وشتمها ووجّه لها كلمات بذيئة، واضطرت المرأة النازحة إلى الاستجابة، بينما وجّه لها قناص إسرائيلي سلاحه، في حين شهِدتُ في موقفٍ آخر أن جنديّاً أطلق النار على نازحٍ لم يسمع نداءه، وقتله".

ويشير أبو ناصر، الذي كان يحمل طفله الرضيع بين يديه، إلى أنه حاول جعل طفله يغفو قبل الحاجز، حتى لا يلفت انتباه الجندي فيطلق النار، وسط بكاء الرضيع بسبب جوعه وعدم توفر حليب الأطفال من جهة، أو قدرة أمه على إرضاعه في ممر النزوح الطويل من جهة أخرى.

وأعدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي عشرات الفلسطينيين خلال نزوحهم من مدينة غزة وشمالها إلى مناطق وسط وجنوب قطاع غزة، رغم عدم تشكيلهم أي خطورة، وجرى استهدافهم بإطلاق الرصاص الحي، وفي بعض الأحيان بقذائف مدفعية بغرض القتل العمد خلال محاولتهم النزوح إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي، حسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

من نزوح إلى نزوح

لم تتوقف رحلة نزوح محمد أبو ناصر وعائلته عند الوصول إلى مدينة رفح، فقد اضطر إلى النزوح مرة ثانية داخل المدينة، بعد أن استهدفت طائرات الاحتلال بيت صديقه، حيث أقام أبو ناصر وعائلته، وتوجهوا إلى البحث عن مكانٍ آخر.

ومساء 11 فبراير/شباط الجاري، شنَّت طائرات الاحتلال أحزمة نارية على مدينة رفح بشكلٍ مفاجئ، وأعلنت في صباح اليوم التالي أنها استطاعت "تحرير أسيرَين إسرائيليين" من أسرى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكن هذه الليلة، مرّت ثقيلة على "أبو ناصر"، إذ يصفها بأنها "كانت ليلة صعبة جدّاً، لا نفهم ماذا يجري، الأحزمة النارية والقصف من حولنا، تذكرت ما حدث شمال قطاع غزة، وشعرت بالخوف".

على غرار أبو ناصر، نزحت وعد أبو زاهر مرتين، الأولى من محافظة الوسطى جنوب وادي غزة، بعد امتداد العملية البرية لجنود الاحتلال نحو الجنوب، إلى مدينة خان يونس التي وصل إليها جيش الاحتلال الإسرائيلي في 6 ديسمبر/كانون الأول 2023، فاضطرت إلى النزوح مرة أخرى نحو مدينة رفح.

وتقول أبو زاهر لـTRT عربي، إنها نزحت إلى مدينة رفح لأن الاحتلال ادّعى أنها "مكان آمن"، لكنها الآن تعيش الخوف ذاته مع تلويح الاحتلال بعملية برية في مدينة رفح، مضيفة: "رفح وجهتها الأخيرة، أين سنذهب بعدها؟، لا نستطيع الرجوع إلى خان يونس وما زالت الاشتباكات هناك".

وحسب أبو زاهر، فإن تكرار النزوح ليس عملية سهلة، وتضيف: "كل مرة نريد أن ننزح نترك أمتعتنا في المكان الذي كنا فيه، لا نستطيع حملها معنا، ونضطر إلى أن نبحث عن أمتعةٍ وأدواتٍ وخيمةٍ جديدة، وهو ليس بالأمر السهل، لا شيء متوفر، ومن جهة أخرى، أعيش في رعبٍ من إمكانية عملية برية في رفح، أين سنذهب؟ أفكر بعائلتي وأحبابي".

استهداف المناطق الآمنة

خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، نزح أكثر من مليونَي فلسطيني داخل القطاع، كما تشير بيانات المكتب الإعلامي الحكومي، وكثير من النازحين اضطروا إلى النزوح أكثر من مرة بسبب استهداف الاحتلال "المناطق الآمنة" التي طلب من الفلسطينيين النزوح إليها.

وتعتبر منطقة المواصي جنوب شرقي وادي غزة، من أكثر المناطق التي نزح إليها الفلسطينيون، وقد أعلن الاحتلال أنها "منطقة آمنة"، ووجّه حركة النزوح من شمال الوادي وجنوبه إليها، وفيها حاليّاً أكثر من 180 ألف نازح، بعد أن كان عدد سكانها 9 آلاف نسمة قبل الحرب، وفق معطيات وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "أونروا".

ومن بين النازحين إلى منطقة المواصي، كانت عائلة صالح المكونة من محمد ووالدته وشقيقاته، في خط نزوح من معسكر جباليا في شمال القطاع، بعد أن استهدف الاحتلال الإسرائيلي مدرسة الفاخورة قرب منزلهم في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، التي أسفرت عن استشهاد وإصابة 200 فلسطيني نزحوا إلى المدرسة.

وحسب ما ترويه العائلة لـTRT عربي، فإنهم لم يجدوا منطقة المواصي "آمنة"، حيث قصفت طائرات الاحتلال المدرسة التي نزحوا إليها في 22 يناير/كانون الثاني الماضي، واستُشهد أكثر من 70 نازحاً في المدرسة، ونجت عائلة "صالح"، لتنزح من جديد نحو مدينة رفح.

استطاعت عائلة صالح بصعوبة بالغة أن تجد خيمة في مدينة رفح، تزامن قدومهم إلى المدينة مع منخفض جوي وأمطار ورياحٍ، دفعتهم إلى النوم بملابس مبللة وعلى "بطانيات" أغرقتها المياه المتسللة إلى الخيمة، وسط بردٍ شديد، ومع حديثٍ عن عملية برية على المدينة، تترقب العائلة "لتحمل خيمتها وتغادر في نزوحٍ جديد، لا تعرف نهايته".

TRT عربي